فصل: قال ملا حويش:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ملا حويش:

تفسير سورة السجدة:
عدد 25 و75- 32.
نزلت بمكة بعد سورة المؤمنين عدا الآيات ص 16 إلى 20 فإنهن نزلن بالمدينة.
وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة وثمانون كلمة، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا، وتسمى سورة المضاجع، ومثلها في عدد الآي سورة تبارك وسورة الفجر.
بسْم اللَّه الرَّحْمن الرَّحيم.
قال تعالى: {الم} 1 تقدم ما فيه واللّه أعلم بما فيه، راجع أول سورة لقمان المارة، وعلى أنه اسم للسورة يكون مبتدأ خبره قوله تعالى: {تَنْزيلُ الْكتاب لا رَيْبَ فيه منْ رَبّ الْعالَمينَ} 2 لجميع العالمين المدركين أَمْ استفهام إنكار، ويفيد الانتقال من كونه منزلا من اللّه بلا شك ولا شبهة إلى ما يتفوه فيه الكفرة مما حكى اللّه عنهم بقوله عز قوله: {يَقُولُونَ افْتَراهُ} محمد من تلقاء نفسه واختلقه كلا {بَلْ هُوَ الْحَقُّ منْ رَبّكَ} يا سيد الرسل لا يقدر أحد أن يبتدع مثله وقد أنزلنا عليك {لتُنْذرَ} به {قَوْمًا ما أَتاهُمْ منْ نَذيرٍ منْ قَبْلكَ} هم قومك إذ لم ينذروا من قبل أحد بعد إسماعيل عليه السلام الذي اندرست شريعته وتفادم عهده ولم يترك لهم كتابا يرجعون إليه من بعده، راجع الآية 44 من سورة سبا المارة وأول سورة يس في ج 1، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} 3 به.

.مطلب في أهل الفترة من هم، ونسبة أيام الآخرة لأيام الدنيا:

قال ابن عباس هذا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولا حجة في هذه الآية على عدم عموم رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلم أو أنها قاصرة على العرب لعدم وجود حجة القصر، والآيات في التعميم كثيرة، إلا أنه لما كانت الأمم غير العرب تتهافت عليها الرسل واحدا بعد واحد- كما مر في الآية 44 من سورة المؤمنين المارة- دون العرب، قال تعالى: {ما أَتاهُمْ منْ نَذيرٍ} الآية، ولأنهم أمّيّون ولا كتاب لديهم يقتدون بما فيه من أمور دينهم، بخلاف اليهود والنصارى فإنهما بعد انقطاع الرسل عنهم ملزمون باتباع شرائع من قبلهم ورسلهم الذين كانوا يدعونهم بمقتضاها، إذ أن دعوتهم منحصرة بهم، وقد جاء في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام إني حقا أرسلت إلى بني إسرائيل وفي نسخة إلى خراف إسرائيل فثبت من هذا أن العرب لم تدعهم إلى اللّه رسل بني إسرائيل، ولما كان كل نبي تنقطع أحكام نبوته بعد موته إلا محمدا صلّى اللّه عليه وسلم لأنه خاتم النبيين والمرسلين ورسالته عامة إلى الخلق كافة، وكانت ذرية كل نبي ملزمة باتباع شريعته، كان على قريش أن تلتزم شريعة إسماعيل عليه السلام كما كان أوائلهم متمسكين بها، إلا أنه فشت فيهم عبادة الأوثان التي أحدثها عمرو الخزاعي وعكفوا عليها إلا ما ندر منهم كزيد بن عمرو بن نوفل العدوي والد سعيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد عاصر النبي صلّى اللّه عليه وسلم، وقالوا إنه آمن به قبل بعثته وقد مات إبان بناء الكعبة عام 25 من ولادته صلّى اللّه عليه وسلم الواقعة عام الفيل سنة 570 من ولادة عيسى عليه السلام، وكان يعيب على قريش ذبحهم لغير اللّه، وقس بن ساعدة الإيادي كان مؤمنا باللّه وعاصر حضرة الرسول أيضا، وتوفي أوائل البعثة الشريفة، وخالد بن سنان العبسي كذلك كان مؤمنا.
وما قيل إنهم رحمهم اللّه كانوا أنبياء لا صحة له البتة، أما ورقة بن نوفل فقيل إنه تنصر.
هذا، ولا تعارض بين هذه الآية وآية فاطر 24 وهي {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} كما أوضحناه في تفسيرها، فراجعها يتبين لك أنه خلا أول العرب أي سلف نذير فيهم وهو إسماعيل عليه السلام، إلا أنه لم يرسل إليهم رسول بعده وبقوا طيلة هذه المدة العظيمة مهملين دون رسول ولا كتاب، بيد أن الأمم الأخرى تتابعت عليهم الرسل.
وقال بعض المفسرين إن ما هنا في هذه الآية اسم موصول، وعليه يكون المعنى لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك، يريد بهذا النذير إسماعيل، وهو ليس بشيء، لأن أكثرهم لا يعرفون أنه كان هناك نبي أم لا، وما جرينا عليه بأن ما نافية أنسب بالمقام وأولى بالمعنى وأقوى حجة وبرهانا.
هذا وإذا علمت نفي مجيء رسول إليهم تعلم أنهم لم يؤاخذوا على عدم القيام بالشرائع، لأنها لا تدرك إلا من قبل الرسول ولكنهم يؤاخذون بعدم معرفة اللّه وتوحيده، لأن العقل السليم قد يوصل إلى ذلك من غير واسطة الرسل، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 15 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعها.
أما ما يتعلق في عموم رسالته فقدمناه أيضا في الآية 28 من سورة سبأ المارة.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّماوات وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما في ستَّة أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْش} هو المستحق للعبادة وحده، راجع الآية 116 من سورة المؤمنين المارة وما ترشدك إليه تقف على معنى العرش وعظمته.
واعلموا أيها الناس أنكم {ما لَكُمْ منْ دُونه منْ وَليٍّ} يلي أموركم وينصركم غيره {وَلا شَفيعٍ} دون أمره ورضاه فزعمكم بشفاعة الأصنام باطلة {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 4 بمواعظ اللّه وتتعظون بعبره وهو الذي {يُدَبّرُ الْأَمْرَ} في الدنيا على وجه الحكمة والإتقان فينزله {منَ السَّماء إلَى الْأَرْض} مدة دوامها {ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْه} ذلك الأمر كله ليحكم فيه وقت فصل القضاء بين الناس في الآخرة، قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْه في يَوْمٍ كانَ مقْدارُهُ خَمْسينَ أَلْفَ سَنَةٍ} الآية 4 من سورة المعارج الآتية.
واعلم أن هذه المسافة ما بين الأرض وسدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام.
قال ابن عباس لعبد اللّه بن فيروز حين سأله عن هذه الأيام: أيام سماها اللّه لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب اللّه ما لا أعلم.
وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية المذكورة إن شاء اللّه فراجعه {في يَوْمٍ كانَ مقْدارُهُ} بالنسبة لتقدير أيامكم أيها الناس {أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ} 5 الآن وذلك أن مسافة ما بين الأرض وسماء الدنيا على ما جاءت به الآثار خمسمائة سنة، فيكون صعوده ونزوله ألف سنة، بحيث لو كانت هذه المسافة موجودة وسار عليها ابن آدم فلا يقطعها إلا بألف سنة.
هذا إذا كان العروج لسماء الدنيا فقط، أما إذا كان لمحل صدور الأمر فهو أكثر بكثير كما سيأتي في الآية 4 المذكورة آنفا، {ذلكَ} الإله العظيم الذي صنع ما ذكر هو {عالمُ الْغَيْب وَالشَّهادَة} أي ما غاب عن هذا الكون في الآخرة وما عاينوه في الدنيا {الْعَزيزُ} الغالب أمره كل شيء {الرَّحيمُ} بأهل طاعته {الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} في الدارين {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإنْسان} آدم عليه السلام {منْ طينٍ} 7 وقرأ بعضهم وبدى، وعليه قول ابن رواحة:
باسم الإله وبه بدينا ** ولو عبدنا غيره شقينا

{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ منْ سُلالَةٍ} نطفة سيّالة من الإنسان مكونة {منْ ماءٍ مَهينٍ} 8 حقين ضعيف قليل {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فيه منْ رُوحه} أي جعل فيه الشيء الذي اختص به تعالى ولذلك أضافه لنفسه المقدسة تشريفا له وإظهارا بأنه مخلوق كريم على ربه وإعلاما بأن له شأنا بنسبته إلى الحضرة الإلهية يؤيد هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «إن اللّه خلق آدم على صورته» وفي رواية: «على صورة الرحمن».
وهذه الرواية الأخيرة لم تبق مجالا للتأويل والتفسير، أما الأول فقد قال بعضهم إن الضمير يعود إلى آدم أي على صورته نفسه التي هو عليها وليس بشيء والنفخ على حقيقته، وقدمنا ما يتعلق فيه في الآية 8 من سورة المؤمنين والآية 66 من سورة النحل المارتين، وفيهما ما يرشدك إلى غيرها مما هو مشبع فيه بحثه.
واعلم أن المباشر لهذا النفخ الملك الموكل بذلك، والروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن سريان الماء في العود وماء الورد بالورد والنار بالفحم، وقد أقام العلامة ابن الجوزي على هذا مئة دليل تشهد لها ظواهر الأخبار، ولذلك اخترته على غيره من أقوال كثيرة للفلاسفة وغيرهم، وقد أوضحت ما يتعلق به في الآية 84 من سورة الإسراء في ج 1 فراجعه.
ثم ذكر جل ذكره ما يترتب على نفخ الروح في الجسد فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئدَةَ قَليلًا ما تَشْكُرُونَ} 9 اللّه على هذه النعم والحواس العظيمة والجوارح الكريمة التي هي من أبلغ قدرة اللّه تعالى في الإنسان وأكبرها نفعا له، وقدم السمع لأن الإنسان بسمع أولا ثم ينظر إلى القائل ليعرفه ثم يتفكر بقلبه فيفهم معناه، ولا خلاف في أن السمع أفضل من البصر لإمكان التفاهم مع الأعمى دون الأصم {وَقالُوا} الكفرة منكر والبعث {أَإذا ضَلَلْنا} غيّبنا وصرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض ووضعنا فيها فلم يبق ما نتميز به عنها بأن تغلغلنا {في الْأَرْض} حتى كنا من ترابها، قال النابغة يرثي النعمان:
وآب مضلوه بعين جليّة ** وغودر بالجولان حزم ونائل

{أَإنَّا لَفي خَلْقٍ جَديدٍ} بعد ذلك استفهام إنكار وتعجب مما يقول لهم حضرة الرسول إنكم تحيون بعد موتكم هذا وتحاسبون على أعمالكم، قال تعالى لا ترد عليهم يا حبيبي فتقول لهم نعم إنكم تخلقون ثانيا، لأنهم ينكرون أكثر من ذلك {بَلْ هُمْ بلقاء رَبّهمْ كافرُونَ} 10 جاحدون، وهذا انتقال من بيان كفرهم بالبعث إلى ما هو أشد وأفظع وهو جحود مقابلة ربهم بالحساب والجزاء لأنهم لو صدقوا بالحياة الثانية لم يصدقوا بأنهم يعذبون ويثابون على ما وقع منهم من خير وشر ولم يصدقوا أن هناك نارا للكافر وجنة للمؤمن، لأنهم ينكرون الحشر الذي هو أول مقدمات لقاء اللّه وهذه تضاهي الآية 33 من الأنعام المارة، {قُلْ} لهم يا سيد الرسل بل قد {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْت الَّذي وُكّلَ بكُمْ} لقبض أرواحكم في الدنيا {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ} بعد موتكم {تُرْجَعُونَ} 11 في الآخرة لا محالة، وهذه رد لقولهم إنا لا نلاقي اللّه ولا نعود إليه وهو أبلغ من إنكارهم البعث، ولولا تحقق الرجعة إلى اللّه واليقين بإثابة المحسن وعقاب المسيء لما رأيت من يفعل الخير أبدا ولتوغل الناس في الشر، لأن العامل يعمل رجاء الأجر وخوفا من العقاب.
أما العبادة فهي مستحقة للّه تعالى، ولو لم يثب عليها ويخلق الجنة لفاعلها والنار لجاحدها لكان جديرا بأن يعبد ويوحد وينزه ويمجّد لذاته المقدسة، إذ ينبغي أن تكون العبادة خالصة للّه استحقاقا لربوبيته.
قال تعالى: {وَلَوْ تَرى} يا محمد في الموقف العظيم يوم الجزاء {إذ الْمُجْرمُونَ ناكسُوا رُءوسهمْ} حياء وندما على تفريطهم {عنْدَ رَبّهمْ} يقولون يا {رَبَّنا أَبْصَرْنا} بأم أعيننا ما كنا نكذب به من الحياة بعد الموت {وَسَمعْنا} الآن تصديق ما أخبرتنا به رسلك {فَارْجعْنا} إلى الدنيا {نَعْمَلْ صالحًا إنَّا مُوقنُونَ} 12 الآن بكل ما أتتنا به الأنبياء، فيجيبهم أن لا مجال لإجابة هذا الطلب كما مر، وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا عظيما هالك مرآه من أحوال الكافرين وما يحل بهم من أنواع العذاب.
قال تعالى: {وَلَوْ شئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها} بأن وفّقناها في الدنيا للإيمان بما أردناه {وَلكنْ} لم نشأ ذلك إذ {حَقَّ الْقَوْلُ منّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ منَ الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعينَ} 13 تأكيدا لعدم استثناء أحد من العصاة.
ونظير هذه الآية الآية 119 من سورة هود المارة، ثم يقال لهم {فَذُوقُوا} العذاب الأليم {بما نَسيتُمْ لقاءَ يَوْمكُمْ هذا} الذي جحدتموه في الدنيا {إنَّا نَسيناكُمْ} لا نلتفت إليكم أبدا فنجعلكم كالمنسيين وهو عبارة عن تركهم في العذاب لأن النسيان محال على اللّه فهو من باب المشاكلة على حد قوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} على قول بعض المفسرين.
ويقال لهم أيضا {وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْد} الدائم الذي لا نهاية له {بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 14 من المعاصي وذلك بعد أن يطرحوا في النار تنفيذا لعهد اللّه، لأن أمثالهم لا يؤمنون لسابق شقائهم {إنَّما يُؤْمنُ بآياتنَا الَّذينَ إذا ذُكّرُوا بها} وتليت عليهم {خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بحَمْد رَبّهمْ} في سجودهم ونزهوه عما يقول الكفرة {وَهُمْ لا يَسْتَكْبرُونَ} 15 عن الإيمان بها وتصديق من أنزلت عليه ولا يأنفون من وضع جباههم على الأرض بل ولا من تمريغ وجوههم في التراب إذلالا لأنفسهم واحتراما لخالقهم وخشوعا لهيبته وخضوعا لجلاله وتعظيما لربوبيته لسابق سعادتهم.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال:
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ويسجدون حتى ما يجد أحد مكانا لوضع جبهته في غير وقت الصلاة.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار.
وقدمنا في الآية 50 من سورة النحل ما يتعلق بالسجود فراجعه.

.مطلب الآيات المدنيات، وقيام الليل، والحديث الجامع، وأحاديث لها صلة بهذا البحث:

قال تعالى: {تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضاجع} الفرش وما بمعناها من كل ما يضطجع عليه {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا} من عقابه {وَطَمَعًا} في ثوابه {وَممَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفقُونَ} 16 من فضول أموالهم على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل أداء لشكر ما أولاهم به من النعم وشفقة على عيال اللّه الذين أنعم عليهم بها من فضله وكرمه.
وهذا أول الآيات التي نزلت في الانتظار للصلاة بعد الصلاة.
وقال أنس: نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع حتى نصلي العشاء مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
وأخرج مسلم من حديث عثمان بن عفان: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوها ولو حبوا.
والآية واردة في صلاة الليل بعد النوم، لأن سياقها يدل على ذلك، ولا تسمى صلاة الليل تهجدا إلا بعد النوم، وهي كناية عن اشتغالهم بالعبادة وتركهم النوم المستفاد من قوله: {تتجافى} أي تتباعد جنوبهم عن النوم.
ثم طفق جل شأنه يبين لعباده الذين هذا شأنهم ما لهم عنده من الثواب العظيم في الآخرة الذي يتنافس به المتنافسون بقوله جل قوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفيَ لَهُمْ} وهم أولئك الكرام الذين مرت خصلتهم الحسنة التي يمجدها لهم ربهم.
والتنوين في كلمة نفس يشعر بأنه لا يعلم أحد غيره من نبي مرسل أو ملك مقرب ما حىء لهؤلاء الكرام عنده في الآخرة جزاء تركهم النوم وانصبابهم لطاعة اللّه {منْ قُرَّة أَعْيُنٍ} أي شيء عظيم تطيب به أنفسهم وتنشرح به صدورهم {جَزاءً بما كانُوا يَعْمَلُونَ} في دنياهم.
روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: يقول اللّه تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرؤوا إن شئتم {فلا تعلم نفس} الآية.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمت قدماه، فقلت لم تصنع هذا يا رسول اللّه وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا؟ وهذا الحديث لم تسمعه عائشة عند نزول هذه الآيات، إذ كان عمرها دون الست سنين عند نزولها، لأنه كان قبل الهجرة بسنة تقريبا وهي تزوجت برسول اللّه بعد الهجرة في السنة الثانية منها، وكان عمرها تسع سنين، وهذا الحديث روته بعد ذلك وجيء به هنا للمناسبة، وهكذا كثير من الأحاديث تذكر بمناسبة الآيات مع أنها قد تكون سمعت من حضرة الرسول قبل نزولها وقد يكون بعده.
وروى البخاري عن الهيثم بن سنان أنه سمع أبا هريرة في قصة يذكر فيها النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني بذلك ابن راوحة قال شعرا:
وفينا رسول اللّه يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات ما إذا قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه قال: كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في سفرة فأصبحت يوما قريبا منه، فقلت يا رسول اللّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال سألت عن عظيم، وإنه ليسير عمن يسره اللّه عليه، تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: {تتجافى جنوبهم} حتى بلغ {جزاء بما كانوا يعملون} ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت بلى يا رسول اللّه، قال رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد.
ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت بلى يا رسول اللّه، فأخذ بلسانه وقال اكفف عليك هذا، فقلت يا رسول اللّه وإنا لمؤاخذون بما يتكلم؟ فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟.
وأخرج الترمذي عن أبي أمامه الباهلي عن رسول صلّى اللّه عليه وسلم قال: عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الآثام، ومطردة الداء عن الجسد.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «عجب ربنا من رجلين، رجل ثار عن أوطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته، فيقول اللّه عز وجل لملائكته أنظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل اللّه وانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه، فيقول اللّه تعالى أنظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي حتى أهريق دمه» أخرجه الترمذي هذا، واعلم أن الهيثم المار ذكره في الحديث الأول ليس له في الصحيحين عن أبي هريرة غير ذلك الحديث.